بحمد الله كثر من يستقيم على طريق الخير وكثر التائبون ولكن هناك طائفة منهم لا تملك نفسا طويلا على الاستقامة فتعود كما كانت فما هو السبب فضيلة الشيخ وما هو توجيهكم للدعاة حيال ذلك .
الجواب
ليس السبب واحداً، وإنما هي عدة أسباب منها :
أن تكون البداية ضعيفة وأن يكون، والأصحاب من ذوي الهمم الدانية، ومنها ضغط العادة، وقلة الصبر، وقلة المعين ، وترك الاستشارة والسؤالِ.
ومنها ضعف التحصيل العلمي، وضعف التعبد، وقلة التفقد للنفس وعيوبها وقلة السعي في إصلاحها.
ومنها استطالة الطريق، والنظر إلى من هو أقل.
ومنها كثرة القيل و القال ، والجدال، وقلة الاشتغال بما يعني ، ومنها الفتن التي تمر بها الأمة؛ فهي تحتاج إلى تأمل وروية وبعد نظر، ومن كان ضعيفاً في العلم والعمل أوشك ألا يصمد، خصوصاً إذا لم يجد أو لم يبحث عمن يأخذ بيده إلى بر الأمان.
وبالجملة فالأسباب كثيرة.
أما ما ينبغي فعله حيال ذلك الأمر فيحتاج إلى بسط وتفصيل.
ومما يفيد في هذا الشأن أن يحرص المربون والدعاة على تربية من تحت أيديهم تربية متوازنة متكاملة، وأن يشرحو صدورهم لما يرد عليهم من أسئلة وإشكالات ، وألا يستعجلوا النتائج.
ومن ذلك ألا يشغلوا الناشئة فيما لا يعنيهم، بل يحرصوا على تزكيتهم بالعلم والعمل، والبعد عن مواطن الخلاف.
وهذا ما يؤكد حاجة الأمة إلى وجود المربين الأفذاذ، والمعلمين القدوات الذين يستحضرون عظم المسؤولية، ويستشعرون ضخامة الأمانة، والذين يتسمون ببعد النظرة، وعلو الهمة، وسعة الأفق، وحسن الخلق،والذين يتحلون بالحلم والعلم، والصبر والشجاعة، وكرم النفس والسماحة.
فأثر هؤلاء في التربية كبير، ودورهم الذي يقومون به غير يسير؛ فالواحد من هؤلاء الأفذاذ ممن اجتمع له ما اجتمع من خصال الخير، ومن معاني السمو والألمعية لا بد أن يتأثر به طلابه، وأن ينطبعوا بطابعه؛ لأنه سيربيهم على معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، والتطلع للكمالات.
فإن أتيت للعلم وجدته يفتح لهم أبوابه، ويشحذ قرائحهم لفهم معانيه، وإدراك مراميه، ورأيته يطلق لهم العنان في البحث، ويردهم إلى الصواب برفق إن أخطأوا، ويثني عليهم إن ناقشوا فأصابوا.
بل إنه سيحرص جهده على أن يكون من تحت يده خيراً منه، فلن يقف حجر عثرة أمام طلابه، ولن يجد في نفسه غضاضة أن يتفوق أحدٌ مهم عليه.
وما ذلك إلا لكرم نفسه، وعلو همته، وسعة أفقه، ولأنه يسعى للإصلاح، ويروم رفع الغشاوة عن الناس، ولإنه يعمل للآخرة، ويعلم أن أجره سيدوم ويتضاعف إذا هو خرَّج طلاباً يخلفونه في العلم، وينشرون ما تلقوه على يديه.
يقص علينا التاريخ أن في الأساتذة من يحرص على أن يرتقي تلاميذه في العلم إلى الذروة، ولا يجد في نفسه حرجاً من أن يظهر عليه أحدهم في بحث أو محاورة.
يذكرون أن العلامة أبا عبد الله الشريف التلمساني كان يحمل كلام الطلبة على أحسن وجوهه، ويبرز في أحسن صوره.
ويروى أن أبا عبد الله هذا كان قد تجاذب مع أستاذه أبي زيد ابن الإمام الكلام في مسألة، وطال البحث اعتراضاً وجواباً، حتى ظهر أبو عبد الله على أستاذه أبي زيد، فاعترف له الأستاذ بالإصابة، وأنشد مداعباً:
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
وإن أتيت للمجالات الأخرى رأيت هذا المربي الفاضل يربيهم على خلق العدل، وفضيلة الإنصاف، والتجافي عن ساقط القول ومرذوله.
وستجده أيضاً يربيهم على خلق الشجاعة، وصرامة العزم، وعزة النفس، وأباءة الضيم، كما أنه سيربيهم على التواضع الجم، والبعد عن الإعجاب والتعالي على عباد الله.
فإذا تربى الطلاب على الدين القويم، ووصلت معانيه إليهم من طريقها الصحيح، وقام على التربية معلمون ربانيون مخلصون رسخت الفضائل في نفوسهم، وَقَّرتْ بها قرار ذات الصدع تحت ذات الرجع، فلا ترى من جراء تلك التربية إلا حياءً وعفافاً، وأمانة وصدقاً، واستصغار للعضائم، وغيرة على المصالح، وما شئت بعدُ من عزة النفس، وكبر الهمة.
تلك الخصال التي لا تنبت أصولها، ولا تعلو فروعها إلا أن يتفيأ عليها ظلال الهداية ذات اليمين وذات الشمال؛ فالإسلام دين ينير العقول بالحجة، ويزكي النفوس بالحكمة.
وكم أخرجت مدارسه، أو مجالس القوامين على هدايته من رجال يلاقون الأسود فيصرعونها، ويجارون الرياح فيسبقونها، يخفضون أجنحتهم؛ تواضعاً للمستضعفين، ويرفعون رؤوسهم؛ عزة على الجبارين، تعترضهم الأخطار فيخوضون غمارها، وتعتل قلوب أو عقول فيضعون الدواء موضع عللها، عدل كأنه القسطاس المستقيم، وسخاء كأنه الغيث النافع العميم، وجدٌّ في طلب العلم وإن كان بمناط الثريا، وطموح إلى المعالي وإن انتبذت وراء الفلك الدَّوار مكاناً قضياً.
قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله في وصيته للمعلمين: ( ثم احرصوا على أن يكون ما تلقونه لتلاميذكم من الأقوال منطبقاً على ما يرونه ويشهدونه منكم من الأعمال؛ فإن الناشئ الصغير مرهف الحس، طُلَعَةٌ إلى مثل هذه الدقائق التي تغفلون عنها، ولا ينالها اهتمامكم.
وإنه قوي الإدراك للمعاييب والكمالات، فإذا زيَّنتم له الصدق فكونوا صادقين، وإذا حسنتم له الصبر فكونوا من الصابرين.
واعلموا أن كل نقْشٍ تنقشونه في نفوس تلامذتكم من غير أن يكون منقوشاً في نفوسكم فهو زائل، وأن كل صبغ تنفضونه على أرواحهم من قبل أن يكون متغلغلاً في أرواحكم فهو لا محالة ناصل حائل، وأن كل سحر تنفثونه لاستنزالهم غير الصدق فهو باطل.
ألا إن رأس مال التلميذ هو ما يأخذه عنكم من الأخلاق الصالحة بالقدوة، وأما ما يأخذه عنكم بالتلقين من العلم والمعرفة - فهو ربح وفائدة ).
25 / 2 / 1424 هـ
|